فصل: فَصـل في بيا ن أجناس الناس

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/  سورة الفرقان

قال شيخ الإسلام ـ رَحِمهُ اللّه تعالى ‏:‏

 فـصـل

أكبر الكبائر ثلاث‏:‏ الكفر، ثم قتل النفس بغير الحق، ثم الزنا، كما رتبها اللّه فى قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏، وفى الصحيحين من حديث عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول اللّه، أى الذنب أعظم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تجعل للّه ندا وهو خلقك‏)‏، قلت‏:‏ ثم أى‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ثم أن تقتل ولدك خشية أن يُطْعَمَ معك‏)‏، قلت‏:‏ ثم أى‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تزانى بحليلة جارك‏)‏‏.‏

ولهذا الترتيب وجه معقول، وهو أن قوى الإنسان ثلاث‏:‏ قوة العقل، وقوة الغضب، وقوة الشهوة‏.‏ فأعلاها القوة العقلية التي يختص بها الإنسان دون سائر الدواب، وتشركه فيها الملائكة، كما قال أبو بكر عبد العزيز من أصحابنا وغيره‏:‏ خُلق للملائكة عقول بلا شهوة ، / وخُلق للبهائم شهوة بلا عقل، وخُلق للإنسان عقل وشهوة، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فالبهائم خير منه‏.‏ ثم القوة الغضبية التي فيها دفع المضرة، ثم القوة الشهوية التي فيها جلب المنفعة‏.‏

ومن الطبائعيين من يقول‏:‏ القوة الغضبية هى الحيوانية، لاختصاص الحيوان بها دون النبات‏.‏ والقوة الشهوية هى النباتية لاشتراك الحيوان والنبات فيها‏.‏ واختصاص النبات بها دون الجماد‏.‏

لكن يقال‏:‏ إن أراد أن نفس الشهوة مشتركة بين النبات والحيوان فليس كذلك، فإن النبات ليس فيه حنين ولا حركة إرادية، ولا شهوة ولا غضب‏.‏ وإن أراد نفس النمو والاغتذاء فهذا تابع للشهوة وموجبها‏.‏

وله نظير فى الغضب‏:‏ وهو أن موجب الغضب وتابعه هو الدفع والمنع، وهذا معنى موجود فى سائر الأجسام الصلبة القوية، فذات الشهوة والغضب مختص بالحى‏.‏ وأما موجبهما من الاعتداء والدفع فمشترك بينهما وبين النبات القوى، فقوة الدفع والمنع موجود فى النبات الصلب القوى، دون اللين الرطب، فتكون قوة الدفع مختصة ببعض النبات، لكنه موجود فى سائر الأجسام الصلبة، فبين الشهوة والغضب عموم وخصوص‏.‏

/ وسبب ذلك، أن قوى الأفعال فى النفس إما جذب وإما دفع، فالقوة الجاذبة الجالبة للملائم هى الشهوة وجنسها من المحبة والإرادة ونحو ذلك، والقوة الدافعة المانعة للمنافى هى الغضب وجنسها من البغض والكراهة، وهذه القوة باعتبار القدر المشترك بين الإنسان والبهائم هى مطلق الشهوة والغضب، وباعتبار ما يختص به الإنسان‏:‏ العقل والإيمان والقوى الروحانية المعترضة‏.‏

فالكفر متعلق بالقوة العقلية الناطقة الإيمانية، ولهذا لا يوصف به من لا تمييز له، والقتل ناشئ عن القوة الغضبية، وعدوان فيها‏.‏ والزنا عن القوة الشهوانية‏.‏ فالكفر اعتداء وفساد فى القوة العقلية الإنسانية، وقتل النفس اعتداء وفساد فى القوة الغضبية‏.‏ والزنا اعتداء وفساد فى القوة الشهوانية‏.‏

ومن وجه آخر ظاهر، أن الخلق خلقهم اللّه لعبادته، وقوام الشخص بجسده، وقوام النوع بالنكاح والنسل، فالكفر فساد المقصود الذي له خلقوا، وقتل النفس فساد النفوس الموجودة، والزنا فساد فى المنتظر من النوع‏.‏ فذاك إفساد الموجود، وذاك إفساد لما لم يوجد بمنزلة من أفسد مالاً موجودا، أو منع المنعقد أن يوجد‏.‏وإعدام الموجود أعظم فسادا، فلهذا كان الترتيب كذلك‏.‏

/ ومن وجه ثالث، أن الكفر فساد القلب والروح الذي هو ملك الجسد، والقتل إفساد للجسد الحامل له، وإتلاف الموجود‏.‏ وأما الزنا فهو فساد فى صفة الوجود لا فى أصله، لكن هذا يختص بالزنا، ومن هنا يتبين أن اللواط أعظم فسادا من الزنا‏.‏

 فصــل

وباعتبار القوى الثلاث، انقسمت الأمم التي هى أفضل الجنس الإنسانى، وهم العرب والروم والفرس‏.‏ فإن هذه الأمم هى التي ظهرت فيها الفضائل الإنسانية، وهم سكان وسط الأرض طولا وعرضا، فأما من سواهم كالسودان والترك ونحوهم فتبع‏.‏

فغلب على العرب القوة العقلية النطقية، واشتق اسمها من وصفها، فقيل لهم‏:‏ عرب من الأعراب، وهو البيان والإظهار، وذلك خاصة القوة المنطقية‏.‏

وغلب على الروم القوة الشهوية من الطعام والنكاح ونحوهما، واشتق اسمها من ذلك فقيل لهم‏:‏ الروم، فإنه يقال‏:‏ رمت هذا أرومه إذا طلبته واشتهيته‏.‏

/ وغلب على الفرس القوة الغضبية من الدفع والمنع والاستعلاء والرياسة، واشتق اسمها من ذلك، فقيل‏:‏ فرس، كما يقال‏:‏ فرسه يفرسه إذا قهره وغلبه‏.‏

ولهذا توجد هذه الصفات الثلاث غالبة على الأمم الثلاث حاضرتها وباديتها؛ ولهذا كانت العرب أفضل الأمم، وتليها الفرس؛ لأن القوة الدفعية أرفع، وتليها الروم‏.‏

 فصــل

وباعتبار هذه القوى كانت الفضائل ثلاثاً‏:‏ فضيلة العقل، والعلم والإيمان‏:‏ التي هى كمال القوة المنطقية، وفضيلة الشجاعة‏:‏ التي هى كمال القوة الغضبية، وكمال الشجاعة هو الحلم، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب‏)‏، والحلم والكرم ملزوزان فى قرن، كما أن كمال القوة الشهوية العفة، فإذا كان الكريم عفيفاً والسخى حليما اعتدل الأمر‏.‏

وفضيلة السخاء والجود التي هى كمال القوة الطلبية الحبية، فإن السخاء يصدر عن اللين والسهولة ورطوبة الخلق، كما تصدر الشجاعة عن / القوة والصعوبة ويبس الخلق، فالقوة الغضبية هى قوة النصر، والقوة الشهوية قوة الرزق، وهما المذكوران فى قوله‏:‏ ‏{‏ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ‏}‏ ‏[‏قريش‏:‏ 4‏]‏، والرزق والنصر مقترنان فى الكتاب والسنة، وكلام الناس كثيراً‏.‏

وأما الفضيلة الرابعة‏:‏ التي يقال لها‏:‏ العدالة، فهى صفة منتظمة للثلاث وهو الاعتدال فيها، وهذه الثلاث الأخيرات هى الأخلاق العملية، كما جاء من حديث سعد لما قال فيه العبسى‏:‏ إنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل فى القضية، ولا يخرج فى السرية‏.‏

 فَصـل

وباعتبار القوى الثلاث كانت الأمم الثلاث‏:‏ المسلمون، واليهود والنصارى، فإن المسلمين فيهم العقل والعلم والاعتدال فى الأمور،فإن معجزة نبيهم هى علم اللّه وكلامه؛ وهم الأمة الوسط‏.‏

وأما اليهود فأضعفت القوة الشهوية فيهم، حتى حرم عليهم من المطاعم والملابس ما لم يحرم على غيرهم، وأمروا من الشدة والقوة بما أمروا به، ومعاصيهم غالبها من باب القسوة والشدة لا من باب الشهوة ، / والنصارى أضعفت فيهم القوة الغضبية فنهوا عن الانتقام والانتصار، ولم تضعف فيهم القوة الشهوية، فلم يحرم عليهم من المطاعم ما حرم على من قبلهم، بل أحل لهم بعض الذي حرم عليهم، وظهر فيهم من الأكل والشرب والشهوات ما لم يظهر فى اليهود، وفيهم من الرقة والرأفة والرحمة ما ليس فى اليهود، فغالب معاصيهم من باب الشهوات لا من باب الغضب، وغالب طاعاتهم من باب النصر لا من باب الرزق‏.‏ ولما كان فى الصوفية والفقهاء عيسوية مشروعة أو منحرفة، كان فيهم من الشهوات ووقع فيهم من الميل إلى النساء والصبيان والأصوات المطربة ما يذمون به، ولما كان فى الفقهاء موسوية مشروعة أو منحرفة، كان فيهم من الغضب ووقع فيهم من القسوة والكبر ونحو ذلك ما يذمون به‏.‏

 فَصـل

جنس القوة الشهوية الحب، وجنس القوة الغضبية البغض، والغضب والبغض متفقان فى الاشتقاق الأكبر؛ ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أوثق عرى الإيمان الحب فى اللّه، والبغض فى اللّه‏)‏‏.‏ فإن هاتين القوتين هما الأصل، وقال‏:‏ ‏(‏من أحب للّه وأبغض للّه / وأعطى للّه ومنع للّه فقد استكمل الإيمان‏)‏، فالحب والبغض هما الأصل، والعطاء عن الحب وهو السخاء، والمنع عن البغض وهو الشحاحة‏.‏ فأما الغضب فقد يقال‏:‏ هو خصوص فى البغض، وهو الشدة التي تقوم فى النفس التي يقترن بها غليان دم القلب لطلب الانتقام، وهذا هو الغضب الخاص؛ ولهذا تعدل طائفة من المتكلمين عن مقابلة الشهوة بالغضب إلى مقابلتها بالنفرة، ومن قابل الشهوة بالغضب فيجب ألا يريد الغضب الخاص، فإن نسبة هذا إلى النفرة نسبة الطمع إلى الشهوة، فأما الغضب العام فهو القوة الدافعة البغضية المقابلة للقوة الجاذبة الحبية‏.‏

 فَصـل

فعل المأمور به صادر عن القوة الإرادية الحبية الشهوية، وترك المنهى عنه صادر عن القوة الكراهية البغضية الغضبية النفرية، والأمر بالمعروف صادر عن المحبة والإرادة،والنهى عن المنكر صادر عن البغض والكراهة،وكذلك الترغيب فى المعروف والترهيب عن المنكر، والحض على هذا والزجر عن هذا؛ولهذا لا تكف النفوس عن الظلم إلا بالقوة الغضبية الدفعية،وبذلك يقوم العدل والقسط فى الحكم والقسم /وغير ذلك، كما أن الإحسان يقوم بالقوة الجذبىة الشهوىة، فإن اندفاع المكروه بدون حصول المحبوب عدم ، إذ لا محبوب ولا مكروه، وحصول المحبوب والمكروه وجود فاسد، إذ قد حصلا معا وهما متقابلان فى الترجيح، فربما يختار بعض النفوس هذا ويختار بعضها هذا، وهذا عند التكافؤ، وأما المكروه اليسير مع المحبوب الكثير فيترجح فيه الوجود، كما أن المكروه الكثير مع المحبوب اليسير يترجح فيه العدم‏.‏

لكن لما كان المقتضى لكل واحد من المحبوب والمكروه الذي هو الخير والشر موجوداً، وبتقدير وجودهما يحصل النصر كالرزق مع الخوف، صار يعظم فى الشرع والطبع دفع المكروه ‏.‏ أما فى الشرع فبالتقوى، فإن اسمها فى الكتاب والسنة والإجماع عظيم، والعاقبة لأهلها والثواب لهم، وأما فى الطبع فتعظيم النفوس لمن نصرهم بدفع الضرر عنهم من عدو أو غيره، فإن أهل الرزق معظمون لأهل النصر أكثر من تعظيم أهل النصر لأهل الرزق؛ وذاك - واللّه أعلم - لأن النصر بلا رزق ينفع، فإن الأسباب الجالبة للرزق موجودة تعمل عملها، وأما الرزق بلا نصر فلا ينفع، فإن الأسباب الناصرة تابعة، وفى هذا نظر فقد يقال‏:‏ هما متقابلان فإن أهل النصر يحبون أهل الرزق أكثر مما يحب أهل الرزق لأهل النصر، فإن الرزق محبوب والنصر معظم‏.‏

/ وقد يقال‏:‏ بل النصر أعظم كما تقدم، فإن اندفاع المكروه محبوب أيضاً وهو لا يحصل إلا بقوة الدفع التي هى أقوى من قوة الجذب، فاختص الناصر بالتعظيم لدفعه المعارض، وأما الرازق فلا معارض له، بل له موافق، فالناصر محبوب معظم‏.‏ وقد يقابل هذا بأن يقال‏:‏ وفوات المحبوب مكروه - أيضاً- والمحبوب لا يحصل إلا بقوة الجذب، ولا نسلم أن قوة الدفع أقوى، بل قد يكون الجذب أقوى، بل الجذب فى الأصل أقوى، لأنه المقصود بالقصد الأول، والدفع خادم تابع له، وكما أن الدافع دفع المعارض فالجاذب حصل المقتضى، وترجيح المانع على المقتضى غير حق، بل المقتضى أقوى بالقول المطلق، فإنه لابد منه فى الوجود‏.‏

وأما المانع فإنما يحتاج إليه عند ثبوت المعارض، وقد لا يكون معارض، فالمقتضى والمحبة هو الأصل والعمدة فى الحق الموجود والحق المقصود،وأما المانع والبغضة فهو الفرع والتابع‏.‏

ولهذا كتب اللّه فى الكتاب الموضوع عنده فوق العرش ‏:‏ ‏(‏إن رحمتى تغلب غضبى‏)‏‏.‏ ولهذا كان الخير فى أسماء اللّه وصفاته، وأما الشر ففى الأفعال، كقوله‏:‏‏{‏نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 49، 50‏]‏، وقوله ‏{‏اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 98‏]‏‏.‏

/ يبقى أن يقال‏:‏ فلم عظمت التقوى‏؟‏ فيقال‏:‏ إنها هى تحفظ الفطرة وتمنع فسادها، واحتاج العبد إلى رعايتها؛ لأن المحبة الفطرية لا تحتاج إلى محرك؛ ولهذا كان أعظم ما دعت إليه الرسل الإخلاص والنهى عن الإشراك؛ لأن الإقرار الفطرى حاصل لوجود مقتضيه، وإنما يحتاج إلى إخلاصه ودفع الشرك عنه؛ ولهذا كانت حاجة الناس إلى السياسة الدافعة لظلم بعضهم عن بعض والجالبة لمنفعة بعضهم بعضاً، كما أوجب اللّه الزكاة النافعة وحرم الربا الضار ، وأصل الدين‏:‏ هو عبادة اللّه الذي أصله الحب والإنابة والإعراض عما سواه، وهو الفطرة التي فطر عليها الناس‏.‏

وهذه المحبة التي هى أصل الدين‏:‏ انحرف فيها فريق من منحرفة الموسوية من الفقهاء والمتكلمين حتى أنكروها، وزعموا أن محبة اللّه ليست إلا إرادة عبادته، ثم كثير منهم تاركون للعمل بما أمروا به، فيأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهذا فاش فيهم، وهو عدم المحبة والعمل، وفريق من منحرفة العيسوية من الصوفية والمتعبدين، خلطوها بمحبة ما يكرهه، وأنكروا البغض والكراهية، فلم ينكروا شيئاً ولم يكرهوه أو قصروا فى الكراهة والإنكار، وأدخلوا فيها الصور والأصوات ومحبة الأنداد‏.‏

ولهذا كان لغواة الأولين وصف الغضب واللعنة الناشئ عن / البغض؛ لأن فيهم البغض دون الحب، وكان لضلال الآخرين وصف الضلال والغلو؛ لأن فيهم محبة لغير معبود صحيح، ففيهم طلب وإرادة ومحبة، ولكن لا إلى مطلوب صحيح، ولا مراد صحيح، ولا محبوب صحيح، بل قد خلطوا وغلوا وأشركوه، ففيهم محبة الحق والباطل، وهو وجود المحبوب والمكروه، كما فى الآخرين بغض الحق والباطل، وهو دفع المحبوب والمكروه واللّه سبحانه يهدينا صراطه المستقيم فيحمد من هؤلاء محبة الحق والاعتراف به، ومن هؤلاء بغض الباطل وإنكاره‏.‏

/  سورة النمل

 قال شيخ الإسلام‏:‏

هذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ فيها‏.‏

منها قوله تعالى{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا‏}‏ الآية ‏[‏النمل‏:‏ 89‏]‏، المشهور عن السلف أن الحسنة‏:‏ لا إله إلا اللّه، وأن السيئة‏:‏ الشرك، وعن السدى قال‏:‏ ذلك عند الحساب ألغى بدل كل حسنة عشر سيئات، فإن بقيت سيئة واحدة فجزاؤه النار إلا أن يغفر اللّه له‏.‏

قلت‏:‏ تضعيف الحسنة إلى عشر وإلى سبعمائة ثابت فى الصحاح، وأن السيئة مثلها، وأن الهم بالحسنة حسنة، والهم بالسيئة لا يكتب‏.‏

فأهل القول الأول قالوه؛ لأن أعمال البر داخلة فى التوحيد، فإن عبادة اللّه بما أمر به كما قال‏:‏ ‏{‏بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 112‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً‏}‏ الآية ‏[‏إبراهيم‏:‏ 24‏]‏‏.‏

/ فالكلمة الطيبة‏:‏ التوحيد، وهى كالشجرة، والأعمال ثمارها فى كل وقت، وكذلك السيئة، هى العمل لغير اللّه، وهذا هو الشرك، فإن الإنسان حارث هُمَام لابد له من عمل ولابد له من مقصود يعمل لأجله‏.‏ وإن عمل للّه ولغيره فهو شرك‏.‏

والذنوب من الشرك فإنها طاعة للشيطان‏.‏ قال‏:‏‏{‏إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ‏}‏ الآية ‏[‏إبراهيم‏:‏ 22‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ‏}‏ الآية ‏[‏يس‏:‏ 60‏]‏، وفى الحديث‏:‏ ‏(‏وشر الشيطان وشركه‏)‏‏.‏ لكن إذا كان موحداً وفعل بعض الذنوب نقص توحيده‏.‏ كما قال‏:‏ ‏(‏لا يزنى الزانى‏)‏ إلخ‏.‏ومن ليس بمؤمن فليس بمخلص، وفى الحديث‏:‏ ‏(‏تعس عبد الدينار‏)‏ إلخ‏.‏ وحديث أبى بكر‏:‏ قل‏:‏ ‏(‏اللهم إنى أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم‏)‏ إلخ، لكن إذا لم يعدل باللّه غيره فيحبه مثل حب اللّه، بل اللّه أحب إليه وأخوف عنده وأرجى من كل مخلوق، فقد خلص من الشرك الأكبر‏.‏

/ سورة الأحزاب

 وقال شيخ الإِسلام ـ رحِمهُ اللّه ‏:‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏، دليل على مثل معنى الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك مالاً فلورثته، ومن ترك كًلا أو ضياعًا فعلىّ ‏)‏ ‏[‏الكلُّ‏:‏ العيال‏]‏ حيث جعله اللّه أولى بهم من أنفسهم‏.‏

ثم جعل الأقارب بعضهم أولى ببعض؛ لأن كونه أولى بهم من أنفسهم يقتضى أن يكون أولى بهم من أولى أرحامهم؛ وذلك لا يقتضى ملك مالهم أحياء فكذلك أمـواتاً، وإنما يقتضى حمل الكل والضياع من ماله، وهو الخمس، أو خمسه، أو مال الفىء كله، على الخلاف المعروف، وفيه دليل على أن الأولوية المقتضية للميراث المذكورة فى قوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏فلأولى رجل ذكر‏)‏، مشروطة بالإيمان‏.‏ / وهذه الآية المقيدة تقضى على تلك المطلقة فى الأنفال ؛ لثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن هذه فى صورة الأحزاب بعد الخندق وتلك فى الأنفال عقب بدر‏.‏

الثانى ‏:‏ أن هذا مطلق ومقيد فى حكم واحد وسبب واحد والحكم هنا متضمن للإباحة، والاستحقاق ، والتحريم على الغير، وإيجاب الإعطاء‏.‏

الثالث‏:‏ أن آيـة الأنفـال ذكـر فيها الأولوية بعد أن قطـع الموالات بين المؤمنين والكافرين ـ أيضاً ـ فهى دليل ثان، وهاتان الآيتان تفسر المطلق فى آية المواريث، ويكون هذا تفسير القرآن بالقرآن، وإن كان قوله‏:‏ ‏(‏لا يرث الكافر المسلم‏)‏ موافقاً له، فأما ميراث المسلم من الكافر ففيه الخلاف الشاذ فنستفيد من الآيتين أيضاً مع الحديث، ويدخل فى الآيتين سائر الولايات، من المناكح والأموال، والعقل، والموت، وفى قوله ‏{‏إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏6‏]‏، دليل على الوصية كآيات النساء‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ‏}‏ الآية ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏، دليل على أن ما أبيح له كان مباحاً لأمته؛ لأنه أخبر أن التزويج كان لمنع الحرج عن الأمة فى مثل ذلك التزويج، فلولا أن فعله المباح له يقتضى الإباحة لأمته لم يحسن التعليل وهذا ظاهر‏.‏

/ وأيضاً ، فإنه إذا كان ذلك فى تزويجه امرأة الدعى الذي كان يعتقد أن تزوجها حرام، ففى ما لا شبهة فيه أولى‏.‏

وأيضاً ، إذا كان هذا فى النكاح الذي خص فيه من المباحات بما لم تشركه أمته، كالنكاح بلا عدد وتزوج الموهوبة بلا مهر، وقد بين أن إباحة عقده النكاح دليل على إباحة ذلك لأمته، ففيما لم يظهر خصوصية فيه كالنكاح أولى‏.‏ وهذا يدل على أن سائر ما أبيح له مباح لأمته، إلا ما خصه الدليل من المعاملات والأطعمة واللباس، ونحو ذلك‏.‏

وأيضاً، فيدل على هذا الأصل قوله‏:‏ فى سياق ما أحله له‏:‏ ‏{‏وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏، من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لما أحل له الواهبة قال‏:‏‏{‏خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ليبين اختصاصه بذلك‏.‏ فعلم أنه حيث سكت عن الاختصاص كان الاشتراك ثابتاً، وإلا فلا معنى لتخصيص هذا الموضع ببيان الاختصاص‏.‏

الثانى‏:‏ أنه ما أحله من الأزواج ومن المملوكات ومن الأقارب / أطلق، وفى الموهوبة قيدها بالخلوص له؛ فعلم أن سكوته عن التقييد فى أولئك دليل الاشتراك‏.‏

فإن قيل‏:‏ السكوت لا يدل على واحد منهما، والتقييد بالخلوص ينفى الاشتراك، فتكون فائدته ألا يظن الاشتراك بدليل منفصل، فإن التحليل له لا يدل على الاختصاص قطعاً، لكن هل يدل على الاشتراك أم لا يدل على واحد منهما‏؟‏ هذا موضع التردد‏.‏ فإذا قيد بالخلوص دل على الاختصاص‏.‏ قيل‏:‏ لو لم يدل على الاشتراك لم يثبت الحكم فى حق الأمة لانتفاء دليله، كما أن ما سكت عنه من المحرمات لم يثبت الحكم لانتفاء دليله‏.‏

وهنا إما أن يقال‏:‏ كانوا يستحلونه على الأصل، وليس كذلك؛ لأن الفروج محظورة إلا بالتحليل الشرعى، فكان يكون محظوراً عليهم فلا يحتاج إلى إخلاصه له لو لم يكن الخطاب المطلق يقتضى الاشتراك والعموم، وأنه من باب الخاص فى اللفظ العام فى الحكم‏.‏

وأصل هذا أن اللفظ فى اللغة قد يصير بحسب العرف الشرعى أو غيره أخص أو أعم، فالخطاب له وإن كان خاصاً فى اللفظ لغة فهو عام عرفاً، وهو مما نقل بالعرف الشرعى من الخصوص إلى العموم، كما ينقل مثل ذلك فى مخاطبات الملوك ونحو ذلك، وهو كثير‏.‏ كما أن / العام قد يصير بالعرف خاصاً‏.‏

وأيضاً، فإنه يبنى ذلك على أصل دليل الخطاب،وأن التخصيص بالذكر مع العام المقتضى للتعميم يدل على التخصيص بالحكم، فلما خص خطاب الموهوبة بذكر الخلوص دل على انتفاء الخلوص عن الباقى وإنما انتفاء الخلوص عن الباقى بعدم ذكر الخلوص مع إثبات التحليل للرسول صلى الله عليه وسلم، فعلم أن إثبات التحليل له مع عدم تخصيصه به يقتضى العموم‏.‏

وعلى هذا، فالخطاب الذي مخرجه فى اللغة خاص ثلاثة أقسام‏:‏

إما أن يدل على العموم كما فى العام عرفاً، مثل خطاب الرسول والواحد من الأمة، ومثل تنبيه الخطاب كقوله‏:‏ لا أشرب لك الماء من عطش‏.‏ ومثقال حبة وقنطار ودينار‏.‏

وإما أن يدل على اختصاص المذكور بالحكم ونفيه عما سواه، كما فى مفهوم المخالفة إذا كان المقتضى للتعميم قائماً وخص أحد الأقسام بالذكر‏.‏

وإما ألا يدل على واحد منهما لفظاً ثم يوجد العموم من جهة المعنى، إما من جهة قياس الأولى، وإما من جهة سائر أنواع القياس ، / ويجب الفرق بين تنبيه الخطاب وبين قياس الأولى، فإن الحكم فى ذاك مستفاد من اللفظ عمهما عرفاً وخطابا ، وهنا مستفاد من الحكم بحيث لو دل على الحكم فعل أو إقرار أو خطاب يقطع معه بأن المتكلم لم يرد إلا الصورة؛ لكان ثبوت الحكم لنوع يقتضى ثبوته لما هو أحق به منه، فالعموم هنا معنوى محض، وهناك لفظى ومعنوى، فتدبر هذا فإنه فصل بين المتنازعين من أصحابنا وغيرهم فى التنبيه هل هو مستفاد من اللفظ أو هو قياس جلى‏؟‏ لتعلم أنه قسمان‏.‏

والفرق أن المستفاد من اللفظ يريد المتكلم به العموم‏.‏ ويمثل بواحد تنبيهاً كقول النحوى‏:‏ ضرب زيد عمراً، بخلاف المستفاد من المعنى‏.‏

والآية المتقدمة وهى قوله‏:‏ ‏{‏زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏، تدل على أن أفعاله صلى الله عليه وسلم تقتضى الإباحة لأمته، مع القطع بأن الفعل فى نفسه لا يعم لفظاً ووضعا ً، وإنما يعم بما ثبت من أن الأصل الاشتراك والإيتساء ‏.‏ ويدل على ذلك ـ أيضاً ـ قوله فى السورة ‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏ الآيــة ‏[‏ الأحزاب‏:‏ 21‏]‏ ‏.‏ فـإن فيها التــأسي فيما أصابه‏.‏ ومتى ثبت الحكم في الإيتساء به فى حكمه عند ما أصابه‏:‏ كان كذلك فيما فعله؛ إذ المصاب عليه فيه واجبات ومحرمات؛ فدلت هذه / الآية على أن الأصل مشاركته فى الإيجاب والحظر، كما دلت تلك على أن الأصل مشاركته فى الإحلال‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ‏}‏ الآية ‏[‏الأحزاب‏:‏ 59‏]‏، دليل على أن الحجاب إنما أمر به الحرائر دون الإماء؛ لأنه خص أزواجه وبناته، ولم يقل‏:‏ وما ملكت يمينك وإماؤك وإماء أزواجك وبناتك‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ والإماء لم يدخلن فى نساء المؤمنين، كما لم يدخل فى قوله‏:‏ ‏{‏نِسَائِهِنَّ‏}‏ ما ملكت أيمانهن حتى عطف عليه في آيتي النور والأحزاب، وهذا قد يقال‏:‏ إنما ينبنى على قول من يخص ما ملكت اليمين بالإناث، وإلا فمن قال‏:‏ هى فيهما أو في الذكور ففيه نظر‏.‏

وأيضاً، فقوله‏:‏‏{‏لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 226‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 2‏]‏، إنما أريد به الممهورات دون المملوكات، فكذلك هذا، فآية الجلابيب في الأرْدِية عند البروز من المساكن، وآية الحجاب عند المخاطبة في المساكن، فهذا مع ما في الصحيح من أنه لما اصطفى صفية بنت حُيَىِّ وقالوا‏:‏ إن حَجبَها فهى من أمهات المؤمنين، وإلا فهى مما ملكت يمينه ، دل على أن الحجاب كان مختصاً بالحرائر‏.‏

وفي الحديث دليل على أن أموة المؤمنين لأزواجه دون سراريه، / والقرآن ما يدل إلا على ذلك؛ لأنه قال‏:‏‏{‏وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏، وهذا أيضا دليل ثالث من الآية؛ لأن الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏، عائد إلى أزواجه فليس للمملوكات ذكر في الخطاب، لكن إباحة سراريه من بعده فيه نظر

 فصــل

من قال‏:‏ من أن السراح والفراق صريح في الطلاق؛ لأن القرآن ورد بذلك، وجعل الصريح ما استعمله القرآن فيه، كما يقوله الشافعى والقاضى وغيرهما من الأصحاب، فقوله ضعيف لوجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن هذا الأصل لا دليل عليه، بل هو فاسد؛ فإن الواقع أن الناس ينطقون بلغاتهم التي توافق لغة العرب أو تخالفها من عربية أخرى عربا مقررة أو مغيرة لفظا أو معنى، أو من عربية مُوَلَّدة، أو عربية مُعَرَّبة، تلقيت عن العجم، أو عن عجمية، فإن الطلاق ونحوه يثبت بجميع هذه الأنواع من اللغات، إذ المدار على المعنى ولم يحرم ذلك عليهم، أو حرم عليهم فلم يلتزموه، فإن ذلك لا يوجب وقوع ما لم يوقعوه‏.‏ وأيضاً، فاستعمال القرآن لفظا في معنى / لا يقتضى أن ذلك اللفظ لا يحتمل غير ذلك المعنى‏.‏

الوجه الثانى‏:‏ وهو القاصم أن هذه الألفاظ أكثر ما جاءت في القرآن في غير الطلاق، مثل قوله‏:‏‏{‏إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 49‏]‏، فهذا بعد التطليق البائن الذي لا عدة فيه أمر بتسريحهن مع التمتيع، ولم يرد به إيقاع طلاق ثان، فإنه لا يقع ولا يؤمر به وفاقًا، وإنما أراد التخلية بالفعل، وهو رفع الحبس عنها، حيث كان النكاح فيه الجمع ملكا وحكما، والجمع حسا وفعلا بالحبس، وكلاهما موجبه، وهما متلازمان؛ فإذا زال الملك أُمِر بإزالة اليد‏:‏ كما يقال‏:‏ في الأموال الملك والحيازة، فالقبض في الموضعين تابع للعقد فإذا رفع العقد إما بإزالة اليد التي هى القبض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 28‏]‏، لا يستدل به على أن التسريح هو التطليق، فإنه قد يريد به التخلية الفعلية حيث قرنه بالمتاع، لكن التخلية الفعلية مستلزمة للتطليق، أو يريد به الأمرين، ولم يرد به الطلاق وحده؛ لأن ذلك لا يفيدهن بل يضرهن، وكذلك قوله‏:‏‏{‏ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 231‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏، كذلك‏.‏ فإن الرجعية إذا قاربت انقضاء العدة لا يؤمر فيها بتطليق ثان إذا لم يرتجعها، وإنما يؤمر/ بتخلية سبيلها وهو التسريح والفراق بالأبدان، بحيث لا يحبسهن ولا يستولى عليهن، كرفع اليد عن الأموال‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏، نص في أنه لا حرج فيما أخطأ به من دعاء الرجل إلى غير أبيه، أو إلى غير مولاه‏.‏

ثم قد يستدل به على رفع الجناح في جميع ما أخطأ به الإنسان من قول أو عمل‏:‏ إما بالعموم لفظا، ويقال‏:‏ ورود اللفظ العام على سبب مقارن له في الخطاب لا يوجب قصره عليه، وإما بالعموم المعنوى بالجامع المشترك من أن الإخطاء لا تأثير له في القلب، فيكون عمل جارحة بلا عمد قلب، والقلب هو الأصل كما قال‏:‏ ‏(‏إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد‏.‏ وإذا كان الأصل لم يعمل شيئا لم يضر عمل الفروع دونه؛ لأنه صالح لا فساد فيه فيكون الجسد كله صالحا فلا يكون فاسداً، فلا يكون في ذلك إثم إذ الإثم لا يكون إلا عن فساد في الجسد، وتكون هذه الآية ردفا لقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏ قال‏:‏ قد فعلت‏.‏

ويؤيده قوله في الإيمان‏:‏ ‏{‏لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 225‏]‏ ، ‏{‏وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏ ، فإنه / إذا كان اليمين بالله ـ وفيها ما فيها ـ لا يؤاخذ فيها إلا بما كسب القلب، فغيرها من الأقوال كذلك وأولى، وإذا كان ما حلف عليه من اليمين يظنه كما حلف عليه، فتبين بخلافه هو من الخطأ الذي هو اللغو؛ لأن قلبه لم يكسب مخالفة، كما لو أنه أخبر بذلك من غير يمين لم يكن عليه إثم الكاذب، كما لو دعا الرجل لغير أبيه ومولاه خطأ، وإذا لم يكن بلا يمين عليه إثم الكاذب لم يكن مع اليمين عليه حكم الحالف المخالف؛ إذ اليمين على الماضى حين يؤكد بالقسم، فكذلك ما حلف عليه من المستقبل، وفعل المحلوف عليه ناسيًا ليمينه، أو مخطئًا جاهلا بأنه المحلوف عليه لم يكسب قلبه مخالفة ولا حنثا، كما أنه لو وعد بذلك من غير يمين لم يكن مخالفًا، ولو أمر به فتركه كذلك لم يكن عاصيا‏.‏

وهذا دليل يتناول الطلاق وغيره، إما من جهة العموم المعنوى أو المعنوى واللفظى، وأى فرق بين أن يقارن اللغو عقد اليمين، أو يقارن الحنث فيها، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ‏}‏، أى‏:‏ هذا سبب المؤاخذة؛ لا أنه موجب لها بالاتفاق فيوجد الخطأ في سببها وشرطها، ومن قال‏:‏ لا لغو في الطلاق فلا حجة معه؛ بل عليه لأنه لو سبق لسانه بذكر الطلاق من غير عمد القلب لم يقع به وفاقا، وأما إذا قصد اللفظ به هازلاً فقد عمد قلبه ذكره، كما لو عمد ذكر اليمين به‏.‏